وهي شهوة مرتبطة ارتباطا وثيقا بحب الظهور ، وهي التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « إنكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة ، فنعم المرضعة وبئس الفاطمة » .
وقوله : « نعم المرضعة » وذلك أولها لأن معها المال والجاه والسلطة ، وقوله : « بئس الفاطمة » أي : آخرها لأن معه القتل والعزل في الدنيا والحسرة والتبعات يوم القيامة ، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم عواقب الرئاسة ومراحلها الثلاث في قوله : « إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي : أولها ملامة ، وثانيها ندامة ، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل » .
والرئاسة التي نقصدها هنا ليست دنيوية فحسب بل قد تكون دينية كذلك لمن يتبوأ مراكز الإرشاد والتوجيه والنصح والتربية ، ولو كان يدفع إلى التطلع للرئاسة : القيام بالواجب وتحمل التبعة الثقيلة في وقت لا يسد الثغرة فيه من هو أفضل بذلا وعملا لكان الأمر محمودا ، أما إذا كان الدافع : رغبة جامحة في الزعامة ونفرة من قبول التوجيه من غيره واستئثار بمركز الأمر والنهي ؛ فيا خطورة ما أصاب من مرض.
وقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام من ابتلي بهذا المرض وردَّه ولم يقبله ، واسمعوا ما رواه الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال له : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من يخالفك ؛ أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال : « الأمر لله يضعه حيث يشاء ». قال : فقال له : " أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بك " .
بل قال صلى الله عليه وسلم لرجلين سألاه الإمارة : « إنا لا نولّي هذا مَنْ سأله ، ولا من حرص عليه » .
يسن بذلك أحد قوانين الإدارة الإيمانية ويميِّزها عن إدارة اليوم الحديثة ، ويمدح صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من الدعاة ، الذين ليس يعنيهم ويشغل فكرهم سوى رضا الله سبحانه وتعالى بارزين كانوا أو مستترين ، في المقدمة أو في المؤخِّرة ، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : « طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يُشفَّع » .
وتأمل أنه ذكر هنا الساقة والحراسة وكلاهما ليس من أماكن الصدارة أو مراكز القيادة ، فكأنه أراد ترسيخ معنى الجندية ومعالجة حب الرئاسة في قلوب السامعين معالجة جذرية ، فلا يذكر الرئاسة ولو بكلمة لتغيب حتى حروفها عن عينك وتتوارى عن قلبك.
يا ذئاب!!
قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ». والذئبان الجائعان هما : الحرص على المال والحرص على الشرف ، وإذا أُرسِلت الذئب في الغنم فماذا تفعل؟! فكذلك يفعل الحرص على المال والحرص على الجاه والشرف في الدين ، إنها تلتهم دين المرء وتفترس إيمانه.
قال ابن رجب : " فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم ، بل إما أن يكون مساويا وإما أكثر ، يشير أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل ، كما أنه لا يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إلا القليل ، فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا " .
وحب الرئاسة والسعي لها شهوة خفية في النفس ، وكثير من الناس قد يزهد في الطعام والشراب والثياب لكن الزهد في الرئاسة عنده نجم سماوي لا يُدرك. قال سفيان الثوري رحمه الله : " ما رأيت زهدا في شيء أقل منه في الرئاسة ، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة تحامى عليها وعادى " ، وقال يوسف بن أسباط : " الزهد في الرئاسة أشد من الزهد في الدنيا " ، ولذلك كان السلف رحمهم الله يحذرون من يحبون منها ، فقد كتب سفيان إلى صاحبه عباد بن عباد رسالة فيها : " إياك وحب الرئاسة ، فإن الرجل تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة ، فتفقَّد نفسك واعمل بنية ".
واتهم أيوب السختياني كل محب للرئاسة بالكذب فقال : " ما صدق عبد قط فأحب الشهرة " ، ونفى عنه التقوى بشر بن الحارث فقال : " ما اتقى الله من أحب الشهرة " ، ووصفه بعدم الفلاح يحيى بن معاذ حين قال : " لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة ".
وما أحسن وصف شدّاد بن أوس رضي الله عنه لحب الرئاسة بالشهوة الخفية حين قال محذرا : يا بقايا العرب ... إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء ، والشهوة الخفية. قيل لأبي داود السجستاني : ما الشهوة الخفية؟ قال : حب الرئاسة.
قال ابن تيمية معقبا : " فهي خفية ، تخفى عن الناس ، وكثيرا ما تخفى على صاحبها " .
أمارة حب الإمارة
لكنها وإن كانت خفية ، ومهما توارت وأتقنت فن التستر والهرب ، فقد أذن الله لنا أن نفضحها عن طريق علاماتها حتى لا يعود لمبتلى عذر في ترك التداوي وهجر التسامي ، ومن العلامات :
ما ذكره الفضيل بن عياض : " ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى ، وتتبع عيوب الناس ، وكره أن يُذكر أحد بخير " .
فمن علاماتها إذن حب ذكر الغير بالنقائص والعيوب ، وكراهة أن يُذكر أحد عنده بخير ، بل وانتقاص الآخرين ليرفع نفسه ، فلا يدل على من هو أفضل منه في الدين أو العلم ، بل ويحجب فضائل الآخرين ويكتم أخبارهم خشية أن يستدل الناس عليهم فيتركوه ويذهبوا إلى غيره ، أو يقارنوا بينه وبين من هو خير منه فينفضوا عنه.
الحسرة إذا زالت أو سُلِبت منه الرئاسة ، وتأمل لو أن عالما تصدَّر مجلس علم مثلا ، فالتف الناس حوله ، ثم جاء من هو أعلم منه فقدَّمه الناس عليه وانقطعوا إليه ، فهل يفرح هذا العالم أو يحزن؟ هل يفرح لأنه قد جاء من هو أعلم منه يحمل عنه المسئولية ويرفع عنه التبعة ويفيد الناس أكثر منه ؛ أم يحزن ويغتم لأنه قد جاء من خطف منه الأضواء وصيحات الإعجاب؟! بهذا تفضح قلبك أيها الداعية إذا خشيت مرضه وأردت شفاءه. قال ابن الجوزي :
" وقد يكون الواعظ صادقا قاصدا للنصيحة إلا أن منهم من شرب الرئاسة في قلبه مع الزمان فيحب أن يُعظَّم ، وعلامته : أنه إذا ظهر واعظ ينوب عنه أو يعينه على الخلق كره ذلك ، ولو صحَّ قصده لم يكره أن يعينه على خلائق الخلق " .
وقال كذلك :
" ومنهم من يفرح بكثرة الأتباع ، ويلبِّس عليه إبليس بأن هذا الفرح لكثرة طلاب العلم ، وإنما مراده كثرة الأصحاب " .
إنها مجالس السوء وإن كان ظاهرها الخير ، وأماكن الفتنة وإن رُفِعت عليها رايات الهدى ، ووسائل الهلاك وإن صُنِعت للنجاة!!
كم شارب عسلا فيه منِيته ** وكم تقلَّد سيفا من به ذُبِحا
وتستطيع أخي الداعية أن تُجري اختبارا واحدا يكشف لك حقيقة مجالسك على الفور ، وذلك على طريقة ابتكرها عبد الرحمن بن مهدي وهي كما يلي :
عن عبد الرحمن بن مهدي قال : " كنتُ أجلس يوم الجمعة فإذا كثر الناس فرحت ، وإذا قلوا حزنت ، فسألت بشر بن منصور فقال : هذا مجلس سوء فلا تعُد إليه ، فما عدتُ إليه " .
حسرة قلبه إذا منع من الظهور وفاتته فرصة إبداء إمكاناته واستعراض قدراته ، وبالحلو تُعرف المرارة ، وبالضد تتميز الأشياء لذا فاسمعوا ما فعل المحدِّث الرباني شيخ نيسابور أبي عمرو إسماعيل بن نجيد فيما قصَّه الإمام الذهبي :
" ومن محاسنه أن شيخه الزاهد أبا عثمان الحيري طلب في مجلسه مالا لبعض الثغور فتأخَّر ، فتألم وبكى على رؤوس الناس ، فجاءه ابن نجيد بألفي درهم فدعا له ، ثم إنه نوَّه به ، وقال : قد رجوت لأبي عمرو بما فعل ، فإنه قد ناب عن الجماعة ، وحمل كذا وكذا ، فقام ابن نجيد وقال : لكن إنما حملت من مال أمي وهي كارهة فينبغي أن ترده لترضى ، فأمر أبو عثمان بالكيس فرد إليه ، فلما جنّ الليل جاء بالكيس والتمس من الشيخ ستر ذلك ، فبكى وكان بعد ذلك يقول : أنا أخشى من همة أبي عمرو " .
إضفاء هالات الأهمية الزائفة كادعاء المواعيد الكاذبة والانشغالات التافهة ، ليوقع في روع الناس علو قدره وارتفاع منزلته وتهافت الناس عليه ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « المتشبِّع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور » .
قال ابن حجر : " المتشبِّع أي المتشبِّه بالشبعان وليس به شبع ، واستعير للتحلي بفضيلة لم يرزقها ، وشُبِّه بلابس ثوبي زور ؛ أي ذي زور ، وهو الذي يتزيا بزي أهل الصلاح رياء ، وأضاف الثوبين إليه لأنهما كالملبوسين ، وأراد بالتثنية أن المتحلي بما ليس فيه كمن لبس ثوبي الزور ارتدى بأحدهما واتزر بالآخر كما قيل : إذا هو بالمجد ارتدى وتأزَّرا ، فالاشارة بالإزار والرداء إلى أنه متصف بالزور من رأسه إلى قدمه ، ويحتمل أن تكون التثنية إشارة إلى أنه حصل بالتشبع حالتان مذمومتان : فقدان ما يتشبع به ، وإظهار الباطل " .
عدم المشاركة بفاعلية عندما يكون مرؤوسا ، بل والتهرب من التكاليف حين لا يكون هناك فرصة للبروز ، واشتعال قلبه حماسة ونشاطا عندما يكون رأس الأمر وقائده.
كثرة نقده لغيره بسبب وبغير سبب ، ومحاولة التقليل من أهمية مقترحات الغير ومبادراتهم مع عدم تقديم البديل ، والعمل على إخفاق ما لم يشارك فيه.
الإصرار على رأيه وصعوبة التنازل عنه ، وإن ظهرت أدلة بطلانه ورجحان غيره.
سبب هذا المرض
السبب الرئيس : عدم تقدير عواقب التقصير في الآخرة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :« ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ فما فوق ذلك، إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه ، فكه بره أو أوثقه إثمه ، أولها ملامة ، وأوسطها ندامة ، وآخرها خزي يوم القيامة » .
ألا فانتبه يا طالب العلم وأنت تعلِّم الناشئة ، وانتبه أيها المربي حين تربِّي من حولك ، وتعلَّم من سعد بن أبي وقاص صلى الله عليه وسلم ، وكيف حثَّنا على الزهد في الرئاسة بلسان حاله مما أغنانا عن آلاف الخطب والصفحات ، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : كان سعد في إبلٍ له وغنم فأتاه ابنه عمر بن سعد ، فلما رآه قال : أعوذ بالله من شر هذا الراكب ، فلما أتاه قال : يا أبت! أرضيتَ أن تكون أعرابيا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة ؟! فضرب سعدٌ صدر عمر وقال : اسكت فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي » .
وتأمَّل أيضا كيف كان هروب العلماء من مسئولية القضاء ، والقضاء منصب وسلطة ومكانة وأبهة ، وقد كان القاضي من أعظم الناس مكانة في زمانه ، وكلمته مسموعة لا ترد ؛ ومع ذلك كان الصالحون يهربون من القضاء ويُضربون عنه ولا يتولونه ، بل ويسجنون ولا يرضونه ، مع أنهم أهل له ، وذلك لخوفهم من تبعات الأمر ، وكيف لا وقد سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم ينذر : « قاضيان في النار ، وقاض في الجنة » .
وكيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يحذِّر : « من أتى أبواب السلطان افتُتِن » ، وكثرة من قضاة اليوم والعلماء على باب السلطان وقوف ، وعلى رضاه حريصون ، ولا يحسون بالكارثة!!
التوازن المفقود
التوازن المنشود بين كراهية الشهرة ووجوب قيادة جموع الأمة ، فإننا نريد لجموع الصالحين أن تبرز في الوقت الذي توارت فيه الكفايات وبرزت فيه الرويبضات ، وأن تفخر بعملها الصالح قائلة : هلم إلينا أيها الناس ، وذلك في الوقت الذي تبارت رموز الشر في الدعوة إلى باطلها ، وتنافست في طمس فطرة الناس ببث سمومها وشرورها ، لذا كان لابد للطيِّب أن يدافع الخبيث ويزاحمه حتى يبث الخير إلى محيط الناس الملوَّث ، وعلى كل واحد أن يتفرَّس في نفسه اليوم ، ويرى هل فيه من علامات حب الرئاسة شيء ، ويعيد تقييم نفسه باستمرار وعلى مرور الأشهر والأعوام ، فإن البداية قد تكون صحيحة ويتسلل الخطأ بعد ذلك ، والنية قد تبدأ خالصة حتى تتسرَّب إليها جرثومة رياء ، لذا وجب التنبه والمراقبة.
الموضوع الأساسي: شهوة حب الرئاسة
المصدر: منتديات عروس
وقوله : « نعم المرضعة » وذلك أولها لأن معها المال والجاه والسلطة ، وقوله : « بئس الفاطمة » أي : آخرها لأن معه القتل والعزل في الدنيا والحسرة والتبعات يوم القيامة ، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم عواقب الرئاسة ومراحلها الثلاث في قوله : « إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي : أولها ملامة ، وثانيها ندامة ، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل » .
والرئاسة التي نقصدها هنا ليست دنيوية فحسب بل قد تكون دينية كذلك لمن يتبوأ مراكز الإرشاد والتوجيه والنصح والتربية ، ولو كان يدفع إلى التطلع للرئاسة : القيام بالواجب وتحمل التبعة الثقيلة في وقت لا يسد الثغرة فيه من هو أفضل بذلا وعملا لكان الأمر محمودا ، أما إذا كان الدافع : رغبة جامحة في الزعامة ونفرة من قبول التوجيه من غيره واستئثار بمركز الأمر والنهي ؛ فيا خطورة ما أصاب من مرض.
وقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام من ابتلي بهذا المرض وردَّه ولم يقبله ، واسمعوا ما رواه الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ، ثم قال له : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من يخالفك ؛ أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال : « الأمر لله يضعه حيث يشاء ». قال : فقال له : " أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بك " .
بل قال صلى الله عليه وسلم لرجلين سألاه الإمارة : « إنا لا نولّي هذا مَنْ سأله ، ولا من حرص عليه » .
يسن بذلك أحد قوانين الإدارة الإيمانية ويميِّزها عن إدارة اليوم الحديثة ، ويمدح صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من الدعاة ، الذين ليس يعنيهم ويشغل فكرهم سوى رضا الله سبحانه وتعالى بارزين كانوا أو مستترين ، في المقدمة أو في المؤخِّرة ، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : « طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يُشفَّع » .
وتأمل أنه ذكر هنا الساقة والحراسة وكلاهما ليس من أماكن الصدارة أو مراكز القيادة ، فكأنه أراد ترسيخ معنى الجندية ومعالجة حب الرئاسة في قلوب السامعين معالجة جذرية ، فلا يذكر الرئاسة ولو بكلمة لتغيب حتى حروفها عن عينك وتتوارى عن قلبك.
يا ذئاب!!
قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ». والذئبان الجائعان هما : الحرص على المال والحرص على الشرف ، وإذا أُرسِلت الذئب في الغنم فماذا تفعل؟! فكذلك يفعل الحرص على المال والحرص على الجاه والشرف في الدين ، إنها تلتهم دين المرء وتفترس إيمانه.
قال ابن رجب : " فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم ، بل إما أن يكون مساويا وإما أكثر ، يشير أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل ، كما أنه لا يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إلا القليل ، فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا " .
وحب الرئاسة والسعي لها شهوة خفية في النفس ، وكثير من الناس قد يزهد في الطعام والشراب والثياب لكن الزهد في الرئاسة عنده نجم سماوي لا يُدرك. قال سفيان الثوري رحمه الله : " ما رأيت زهدا في شيء أقل منه في الرئاسة ، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة تحامى عليها وعادى " ، وقال يوسف بن أسباط : " الزهد في الرئاسة أشد من الزهد في الدنيا " ، ولذلك كان السلف رحمهم الله يحذرون من يحبون منها ، فقد كتب سفيان إلى صاحبه عباد بن عباد رسالة فيها : " إياك وحب الرئاسة ، فإن الرجل تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة ، فتفقَّد نفسك واعمل بنية ".
واتهم أيوب السختياني كل محب للرئاسة بالكذب فقال : " ما صدق عبد قط فأحب الشهرة " ، ونفى عنه التقوى بشر بن الحارث فقال : " ما اتقى الله من أحب الشهرة " ، ووصفه بعدم الفلاح يحيى بن معاذ حين قال : " لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة ".
وما أحسن وصف شدّاد بن أوس رضي الله عنه لحب الرئاسة بالشهوة الخفية حين قال محذرا : يا بقايا العرب ... إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء ، والشهوة الخفية. قيل لأبي داود السجستاني : ما الشهوة الخفية؟ قال : حب الرئاسة.
قال ابن تيمية معقبا : " فهي خفية ، تخفى عن الناس ، وكثيرا ما تخفى على صاحبها " .
أمارة حب الإمارة
لكنها وإن كانت خفية ، ومهما توارت وأتقنت فن التستر والهرب ، فقد أذن الله لنا أن نفضحها عن طريق علاماتها حتى لا يعود لمبتلى عذر في ترك التداوي وهجر التسامي ، ومن العلامات :
ما ذكره الفضيل بن عياض : " ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى ، وتتبع عيوب الناس ، وكره أن يُذكر أحد بخير " .
فمن علاماتها إذن حب ذكر الغير بالنقائص والعيوب ، وكراهة أن يُذكر أحد عنده بخير ، بل وانتقاص الآخرين ليرفع نفسه ، فلا يدل على من هو أفضل منه في الدين أو العلم ، بل ويحجب فضائل الآخرين ويكتم أخبارهم خشية أن يستدل الناس عليهم فيتركوه ويذهبوا إلى غيره ، أو يقارنوا بينه وبين من هو خير منه فينفضوا عنه.
الحسرة إذا زالت أو سُلِبت منه الرئاسة ، وتأمل لو أن عالما تصدَّر مجلس علم مثلا ، فالتف الناس حوله ، ثم جاء من هو أعلم منه فقدَّمه الناس عليه وانقطعوا إليه ، فهل يفرح هذا العالم أو يحزن؟ هل يفرح لأنه قد جاء من هو أعلم منه يحمل عنه المسئولية ويرفع عنه التبعة ويفيد الناس أكثر منه ؛ أم يحزن ويغتم لأنه قد جاء من خطف منه الأضواء وصيحات الإعجاب؟! بهذا تفضح قلبك أيها الداعية إذا خشيت مرضه وأردت شفاءه. قال ابن الجوزي :
" وقد يكون الواعظ صادقا قاصدا للنصيحة إلا أن منهم من شرب الرئاسة في قلبه مع الزمان فيحب أن يُعظَّم ، وعلامته : أنه إذا ظهر واعظ ينوب عنه أو يعينه على الخلق كره ذلك ، ولو صحَّ قصده لم يكره أن يعينه على خلائق الخلق " .
وقال كذلك :
" ومنهم من يفرح بكثرة الأتباع ، ويلبِّس عليه إبليس بأن هذا الفرح لكثرة طلاب العلم ، وإنما مراده كثرة الأصحاب " .
إنها مجالس السوء وإن كان ظاهرها الخير ، وأماكن الفتنة وإن رُفِعت عليها رايات الهدى ، ووسائل الهلاك وإن صُنِعت للنجاة!!
كم شارب عسلا فيه منِيته ** وكم تقلَّد سيفا من به ذُبِحا
وتستطيع أخي الداعية أن تُجري اختبارا واحدا يكشف لك حقيقة مجالسك على الفور ، وذلك على طريقة ابتكرها عبد الرحمن بن مهدي وهي كما يلي :
عن عبد الرحمن بن مهدي قال : " كنتُ أجلس يوم الجمعة فإذا كثر الناس فرحت ، وإذا قلوا حزنت ، فسألت بشر بن منصور فقال : هذا مجلس سوء فلا تعُد إليه ، فما عدتُ إليه " .
حسرة قلبه إذا منع من الظهور وفاتته فرصة إبداء إمكاناته واستعراض قدراته ، وبالحلو تُعرف المرارة ، وبالضد تتميز الأشياء لذا فاسمعوا ما فعل المحدِّث الرباني شيخ نيسابور أبي عمرو إسماعيل بن نجيد فيما قصَّه الإمام الذهبي :
" ومن محاسنه أن شيخه الزاهد أبا عثمان الحيري طلب في مجلسه مالا لبعض الثغور فتأخَّر ، فتألم وبكى على رؤوس الناس ، فجاءه ابن نجيد بألفي درهم فدعا له ، ثم إنه نوَّه به ، وقال : قد رجوت لأبي عمرو بما فعل ، فإنه قد ناب عن الجماعة ، وحمل كذا وكذا ، فقام ابن نجيد وقال : لكن إنما حملت من مال أمي وهي كارهة فينبغي أن ترده لترضى ، فأمر أبو عثمان بالكيس فرد إليه ، فلما جنّ الليل جاء بالكيس والتمس من الشيخ ستر ذلك ، فبكى وكان بعد ذلك يقول : أنا أخشى من همة أبي عمرو " .
إضفاء هالات الأهمية الزائفة كادعاء المواعيد الكاذبة والانشغالات التافهة ، ليوقع في روع الناس علو قدره وارتفاع منزلته وتهافت الناس عليه ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « المتشبِّع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور » .
قال ابن حجر : " المتشبِّع أي المتشبِّه بالشبعان وليس به شبع ، واستعير للتحلي بفضيلة لم يرزقها ، وشُبِّه بلابس ثوبي زور ؛ أي ذي زور ، وهو الذي يتزيا بزي أهل الصلاح رياء ، وأضاف الثوبين إليه لأنهما كالملبوسين ، وأراد بالتثنية أن المتحلي بما ليس فيه كمن لبس ثوبي الزور ارتدى بأحدهما واتزر بالآخر كما قيل : إذا هو بالمجد ارتدى وتأزَّرا ، فالاشارة بالإزار والرداء إلى أنه متصف بالزور من رأسه إلى قدمه ، ويحتمل أن تكون التثنية إشارة إلى أنه حصل بالتشبع حالتان مذمومتان : فقدان ما يتشبع به ، وإظهار الباطل " .
عدم المشاركة بفاعلية عندما يكون مرؤوسا ، بل والتهرب من التكاليف حين لا يكون هناك فرصة للبروز ، واشتعال قلبه حماسة ونشاطا عندما يكون رأس الأمر وقائده.
كثرة نقده لغيره بسبب وبغير سبب ، ومحاولة التقليل من أهمية مقترحات الغير ومبادراتهم مع عدم تقديم البديل ، والعمل على إخفاق ما لم يشارك فيه.
الإصرار على رأيه وصعوبة التنازل عنه ، وإن ظهرت أدلة بطلانه ورجحان غيره.
سبب هذا المرض
السبب الرئيس : عدم تقدير عواقب التقصير في الآخرة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :« ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ فما فوق ذلك، إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه ، فكه بره أو أوثقه إثمه ، أولها ملامة ، وأوسطها ندامة ، وآخرها خزي يوم القيامة » .
ألا فانتبه يا طالب العلم وأنت تعلِّم الناشئة ، وانتبه أيها المربي حين تربِّي من حولك ، وتعلَّم من سعد بن أبي وقاص صلى الله عليه وسلم ، وكيف حثَّنا على الزهد في الرئاسة بلسان حاله مما أغنانا عن آلاف الخطب والصفحات ، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : كان سعد في إبلٍ له وغنم فأتاه ابنه عمر بن سعد ، فلما رآه قال : أعوذ بالله من شر هذا الراكب ، فلما أتاه قال : يا أبت! أرضيتَ أن تكون أعرابيا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة ؟! فضرب سعدٌ صدر عمر وقال : اسكت فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي » .
وتأمَّل أيضا كيف كان هروب العلماء من مسئولية القضاء ، والقضاء منصب وسلطة ومكانة وأبهة ، وقد كان القاضي من أعظم الناس مكانة في زمانه ، وكلمته مسموعة لا ترد ؛ ومع ذلك كان الصالحون يهربون من القضاء ويُضربون عنه ولا يتولونه ، بل ويسجنون ولا يرضونه ، مع أنهم أهل له ، وذلك لخوفهم من تبعات الأمر ، وكيف لا وقد سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم ينذر : « قاضيان في النار ، وقاض في الجنة » .
وكيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يحذِّر : « من أتى أبواب السلطان افتُتِن » ، وكثرة من قضاة اليوم والعلماء على باب السلطان وقوف ، وعلى رضاه حريصون ، ولا يحسون بالكارثة!!
التوازن المفقود
التوازن المنشود بين كراهية الشهرة ووجوب قيادة جموع الأمة ، فإننا نريد لجموع الصالحين أن تبرز في الوقت الذي توارت فيه الكفايات وبرزت فيه الرويبضات ، وأن تفخر بعملها الصالح قائلة : هلم إلينا أيها الناس ، وذلك في الوقت الذي تبارت رموز الشر في الدعوة إلى باطلها ، وتنافست في طمس فطرة الناس ببث سمومها وشرورها ، لذا كان لابد للطيِّب أن يدافع الخبيث ويزاحمه حتى يبث الخير إلى محيط الناس الملوَّث ، وعلى كل واحد أن يتفرَّس في نفسه اليوم ، ويرى هل فيه من علامات حب الرئاسة شيء ، ويعيد تقييم نفسه باستمرار وعلى مرور الأشهر والأعوام ، فإن البداية قد تكون صحيحة ويتسلل الخطأ بعد ذلك ، والنية قد تبدأ خالصة حتى تتسرَّب إليها جرثومة رياء ، لذا وجب التنبه والمراقبة.
الموضوع الأساسي: شهوة حب الرئاسة
المصدر: منتديات عروس
via منتديات عروس http://ift.tt/1zTouL1
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire